فصل: تفسير الآية رقم (88)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

‏{‏وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

‏{‏وَتَرَى الجبال‏}‏ عطف على ‏{‏ينفخ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 87‏]‏ داخل في حكم التذكير؛ وترى من رؤية العين، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَحْسَبُهَا جَامِدَةً‏}‏ أي ثابتة في أماكنها لا تتحرك حال من فاعل ترى أو من مفعوله، وجوز أن يكون بدلاً من سابقه، وقوله عز وجل‏.‏

‏{‏وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب‏}‏ حال من ضمير الجبال في تحسبها، وجوز أن يكون حالاً من ضميرها في جامدة ومنعه أبو البقاء لاستلزامه أن تكون جامدة ومارة في وقت واحدة أي وترى الجبال رأي العين ساكنة والحال أنها تمر في الجور مر السحاب التي تسيرها الرياح سيراً حثيثاً، وذلك أن الأجرام المجتمعة المتكاثرة العدد على وجه الالتصاق إذا تحركت نحو سمت لا تكاد تبين حركتها، وعليه قول النابغة الجعدي في وصف جيش‏:‏

بأرعن مثل الطود تحسب أنهم *** وقوف لحاج والركاب تهملج

وقيل‏:‏ شبه مرها بمر السحاب في كونها تسير سيراً وسطاً كما قال الأعشى‏:‏

كأن مشيتها من بيت جارتها *** مر السحائب لا ريث ولا عجل

والمشهور في وجه الشبه السرعة وإن منشأ الحسبان المذكور ما سمعت، وقيل‏:‏ إن حسبان الرائي إياها جامدة مع مرورها لهول ذلك اليوم فليس له ثبوت ذهن في الفكر في ذلك حتى يتحقق كونها جامدة وليس بذاك وقد أدمج في التشبيه المذكور تشبيه حال الجبال بحال السحاب في تخلخل الأجزاء وانتفاشها كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش‏}‏ ‏[‏القارعة‏:‏ 5‏]‏ واختلف في وقت هذا، ففي إرشاد العقل السليم أنه مما يقع بعد النفخة الثانية كالفزع المذكور عند حشر الخلق يبدل الله تعالى شأنه الأرض غير الأرض ويغير هيئتها ويسير الجبال عن مقارها على ما ذكر من الهيئة الهائلة يشاهدها أهل المحشر وهي وإن اندكت وتصدعت عند النفخة الأولى لكن تسييرها وتسوية الأرض إنما يكون بعد النفخة الثانية كما نطق به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 105 108‏]‏، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تُبَدَّلُ الارض غَيْرَ الارض والسماوات وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 48‏]‏ فإن اتباع الداعي الذي هو إسرافيل وبروز الخلق لله تعالى لا يكونان إلا بعد النفخة الثانية وقد قالوا في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ نُسَيّرُ الجبال وَتَرَى الارض بَارِزَةً وحشرناهم‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 47‏]‏ إن صيغة الماضي في المعطوف مع كون المعطوف عليه مستقبلاً للدلالة على تقدم الحشر على التسيير والرؤية كأنه قيل‏:‏ وحشرناهم قبل ذلك اه‏.‏

وقال بعضهم إنه مما يقع عند النفخة الأولى وذلك أنه ترجف الأرض والجبال ثم تنفصل الجبال عن الأرض وتسير في الجو ثم تسقط فتصير كثيباً مهيلاً ثم هباءً منبثاً، ويرشد إلى أن هذه الصيرورة مما لا يترتب على الرجفة ولا تعقبها بلا مهلة العطف بالواو دون الفاء في قوله تعالى‏:‏

‏{‏يَوْمَ تَرْجُفُ الارض والجبال وَكَانَتِ الجبال كَثِيباً مَّهِيلاً‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 14‏]‏ والتعبير بالماضي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَرَى الارض بَارِزَةً وحشرناهم‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 47‏]‏ لتحقق الوقوع كما مر آنفاً واليوم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الجبال‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 105‏]‏ الآية، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تُبَدَّلُ الارض‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 48‏]‏ الخ يجوز أن يجعل اسماً للحين الواسع الذي يقع فيه ما يكون عند النفخة الأولى من النسف والتبديل وما يكون عند النفخة الثانية من اتباع الداعي والبروز لله تعالى الواحد القهار، وقد حمل اليوم على ما يسع ما يكون عند النفختين في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا نُفِخَ فِى الصور نَفْخَةٌ واحدة وَحُمِلَتِ الارض والجبال فَدُكَّتَا دَكَّةً واحدة فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الواقعة‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 13 15‏]‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 18‏]‏ وهذا كما تقول جئته عام كذا وإنما مجيئك في وقت من أوقاته وقد ذهب غير واحد إلى أن تبديل الأرض كالبروز بعد النفخة الثانية لما في «صحيح مسلم» عن عائشة «قلت يا رسول الله أرأيت قول الله تعالى ‏{‏يوم تبدل الأرض غير الأرض‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 48‏]‏ فأين يكون الناس‏؟‏ قال على الصراط» وجاء في غير خبر ما يدل على أنه قبل النفخة الأولى، وجمع صاحب الإفصاح بين الإخبار بأن التبديل يقع مرتين مرة قبل النفخة الأولى وأخرى بعد النفخة الثانية، وحكي في «البحر» أن أول الصفات ارتجاجها ثم صيرورتها كالعهن المنفوش ثم كالهباء بأن تتقطع بعد أن كانت كالعهن ثم نسفها بإرسال الرياح عليها ثم تطييرها بالريح في الجو كأنها غبار ثم كونها سراباً، وهذا كله على ما يقتضيه كلام السفاريني قبل النفخة الثانية، ومن تتبع الأخبار وجدها ظاهرة في ذلك، والآية هنا تحتمل كون الرؤية المذكورة فيها قبل النفخة الثانية وكونها قبلها فتأمل ‏{‏صُنْعَ الله‏}‏ الظاهر أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة وهي جملة الحال والعالم فيه ما دلت عليه من كون ذلك من صنعه تعالى فكأنه قيل‏:‏ صنع الله تعالى ذلك صنعاً وهذا نحو له على ألف عرفاً ويسمى في اصطلاحهم المؤكد لنفسه وإلى هذا ذهب الزجاج وأبو البقاء‏.‏

وقال بعض المحققين‏:‏ مؤكد لمضمون ما قبله على أنه عبارة عما ذكر من النفخ في الصور وما ترتب عليه جميعاً قصد به التنبيه على عظم شأن تلك الأفاعيل وتهويل أمرها والإيذان بأنها ليست بطريق إخلال نظام العالم وإفساد أحوال الكائنات بالكلية من غير أن يكون فيه حكمة بل هي من قبيل بدائع صنع الله تعالى المبنية على أساس الحكمة المستتبعة للغايات الجميلة التي لأجلها رتبت مقدمات الخلق ومبادىء الإبداع على الوجه المتين والنهج الرصين كما يعرب عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْء‏}‏ أي أتقن خلقه وسواه على ما تقتضيه الحكمة اه، وحسنه ظاهر‏.‏

وقال الزمخشري هو من المصادر المؤكدة إلا أن مؤكدة محذوف وهو الناصب ‏{‏ليوم ينفخ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 87‏]‏ والمعنى ويوم ينفخ في الصور فكان كيت وكيت أثاب الله تعالى المحسنين وعاقب المجرمين ثم قال سبحانه‏:‏ صنع الله يريد عز وجل به الإثابة والمعاقبة إلى آخر ما قال، وهو يدل على أنه فرض اليوم ممتداً شاملاً لزمان النفختين وما بعدهما وجعل المصدر مؤكداً لهذا المحذوف المدلول عليه بالتفصيل في قوله تعالى الآتي‏:‏ ‏{‏من جاء‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 89‏]‏ ‏{‏ومن جاء‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 90‏]‏ وباستدعاء ‏{‏يوم ينفخ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 87‏]‏ ناصباً وفرع عليه ما فرع وتعقبه أبو حيان بأن المصدر المؤكد لمضمون الجملة لا يجوز حذف جملته لأنه منصوب بفعل من لفظه فيجتمع حذف الفعل الناصب وحذف الجملة التي أكد مضمونها بالمصدر وذلك حذف كثير مخل ومن تتبع مساق هذه المصادر التي تؤكد مضمون الجملة وجد الجمل مصرحاً بها لم يرد الحذف في شيء منها إذ الأصل أن لا يحذف المؤكد إذ الحذف ينافي التأكيد لأنه من حيث أكد معتنى به ومن حيث حذف غير معتنى به، وكأن الداعي له إلى العدول عن الظاهر على ما قيل أن الصنع المتقن لا يناسب تسيير الجبال ظاهراً وأنت تعلم أن هذا على طرف الثمام نعم الأحسن جعله مؤكداً لمضمون ما ذكر من النفخ في الصور وما بعده وجىء به للتنبيه على عظم شأن تلك الأفاعيل على ما سمعته عن بعض المحققين‏.‏ وقيل هو منصوب على الإغراء بمعنى انظروا صنع الله وهو كما ترى‏.‏ واستدل بالآية على جواز إطلاق الصانع على الله عز وجل وهو مبني على مذهب من يرى أن ورود الفعل كاف‏.‏

واستدل بعضهم على الجواز المذكور بالخبر الصحيح ‏"‏ إن الله صانع كل صانع وصنعته ‏"‏ وتعقب بأن الشرط أن لا يكون الوارد على جهة المقابلة نحو ‏{‏أأنتم تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزرعون‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 64‏]‏ خلافاً للحليمي على ما يقتضيه قوله يستحب لمن ألقى بذراً في أرض أن يقول الله تعالى الزارع والمنبت والمبلغ، وما في هذا الحديث من هذا القبيل وأيضاً ما في الخبر بالإضافة فلا يدل على جواز الخالي عنها ألا ترى أن قوله صلى الله عليه وسلم يا صاحب كل نجوى أنت الصاحب في السفر لم يأخذوا منه أن الصاحب من غير قيد من أسمائه تعالى فكذا هو لا يؤخذ منه أن الصانع من غير قيد من أسمائه تعالى فتأمله، ونحو هذا الاستدلال بخبر مسلم «ليعزم في الدعاء فإن الله تعالى صانع ما شاء لا مكره له» فإن ما فيه من قبيل المضاف أو المقيد والأولى الاستدلال بما صح في حديث الطبراني والحاكم ‏"‏ اتقوا الله تعالى فإن الله تعالى فاتح لكم وصانع ‏"‏

ولا فرق بين المعرف والمنكر عند الفقهاء لأن تعريف المنكر لا يغير معناه ولذا يجوزون في تكبيرة الإحرام‏:‏ الله الأكبر‏.‏

واستدل القاضي عبد الجبار بعموم قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَتْقَنَ كُلَّ شَىْء‏}‏ على أن قبائح العبد ليست من خلقه سبحانه وإلا وجب وصفها بأنها متقنة والإجماع مانع منه وأجيب بأن الآية مخصوصة بغير الأعراض لأن الإتقان بمعنى الإحكام وهو من أوصاف المركبات ولو سلم فوصف كل الأعراض به ممنوع فما من عام إلا وقد خص ولو سلم فالإجماع المذكور ممنوع بل هي متقنة أيضاً بمعنى أن الحكمة اقتضتها ‏{‏إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ‏}‏ جعله بعض المحققين تعليلاً لكون ما ذكر من النفخ في الصور وما بعده صنعاً محكماً له تعالى ببيان أن علمه تعالى بظواهر أفعال المكلفين وبواطنها مما يستدعي إظهارها وبيان كيفياتها على ما هي عليه من الحسن والسوء وترتيب أخيريتها عليها بعد بعثهم وحشرهم وتسيير الجبال حسبما نطق به التنزيل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏

‏{‏مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ ‏(‏89‏)‏‏}‏

‏{‏مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا‏}‏ بياناً لما أشير إليه بإحاطة علمه تعالى بأفعالهم من ترتيب أخيريتها عليها‏.‏ وقال العلامة الطيبي قوله تعالى إن الله الخ استئناف وقع جواباً لقول من يسأل فماذا يكون بعد هذه القوارع فقيل إن الله خبير بعمل العاملين فيجازيهم على أعمالهم وفصل ذلك بقوله سبحانه من جاء الخ‏.‏ والخطاب في ‏{‏تَفْعَلُونَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 88‏]‏ لجميع المكلفين وقرأ العربيان وابن كثير ‏{‏يَفْعَلُونَ‏}‏ بياء الغيبة‏.‏ والمراد بالحسنة على ما روي عن ابن عباس‏.‏ وابن مسعود‏.‏ ومجاهد‏.‏ والحسن والنخعي وأبي صالح وسعيد بن جبير وعطاء وقتادة شهادة أن لا إله إلا الله‏.‏ وروى عبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه عن أبي هريرة وأبو الشيخ وابن مردويه والديلمي عن كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم فسرها بذلك والمراد بهذه الشهادة التوحيد المقبول وقيل المرادب الحسنة ما يتحقق بما ذكر وغيره من الحسنات وهو الظاهر، نظراً إلى أن اللام حقيقة في الجنس‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ الظاهر الأول، لأن الظاهر حمل المطلق على الكامل وأكمل جنس الحسنة التوحيد ولو أريد العموم لكان الظاهر الإتيان بالنكرة، ويكفي في ترجيح الأول ذهاب أكثر السلف إليه وإذا صح الحديث فيه لا يكاد يعدل عنه‏.‏ وكان النخعي يحلف على ذلك ولا يستثنى، والظاهر أن خيراً للتفضيل وفضل الجزاء على الحسنة كائنة ما كانت‏.‏ قيل باعتبار الأضعاف أو باعتبار الدوام‏.‏ وزعم بعضهم أن الكلام بتقدير مضاف أي خير من قدرها وهو كما ترى‏.‏ وقال بعض الأجلة ثواب المعرفة النظرية والتوحيد الحاصل في الدنيا هي المعرفة الضرورية على أكمل الوجوه في الآخرة والنظر إلى وجهه الكريم جل جلاله وذلك أشرف السعادات‏.‏ وقيل ءن خيراً ليس للتفضيل ومن لابتداء الغاية أي فله خير من الخيور مبدؤه ومنشؤه منها أي من جهة الحسنة‏.‏ وروي ذلك عن ابن عباس‏.‏ والحسن وقتادة ومجاهد وابن جريج وعكرمة ‏{‏وَهُمْ‏}‏ أي الذين جاءوا بالحسنة ‏{‏مّن فَزَعٍ‏}‏ أي فزع عظيم هائل لا يقادر قدره ‏{‏يَوْمَئِذٍ‏}‏ ظرف منصوب بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ءامِنُونَ‏}‏ وبه أيضاً يتعلق ‏{‏مّن فَزَعٍ‏}‏ والأمن يستعمل بالجار وبدونه كما في قوله‏:‏ ‏{‏أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 99‏]‏، وجوز أن يكون الظرف منصوباً بفزع وأن يكون منصوباً بمحذوف وقع صفة له أي من فزع كائن في ذلك الوقت، وقرأ العربيان‏.‏ وابن كثير‏.‏ وإسماعيل بن جعفر، عن نافع فزع يومئذٍ بإضافة فزع إلى يوم، وكسر ميم يوم، وقرأ نافع في غير رواية إسماعيل كذلك إلا أنه فتح الميم فتح بناءً لإضافة يوم إلى غير متمكن وتنوين إذ للتعويض عن جملة، والأولى على ما في»البحر» أن تكون الجملة المحذوفة المعوض هو عنها ما قرب من الظرف أي يوم إذا جاء بالحسنة، وجوز أن يكون التقدير يوم إذ ينفخ في الصور لا سيما إذا أريد بذلك النفخ النفخة الثانية، واقتصر عليه شيخ الإسلام، وفسر الفزع بالفزع الحاصل من مشاهدة العذاب بعد تمام المحاسبة وظهور الحسنات والسيئات وهو الذي في قوله تعالى‏:‏

‏{‏لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الاكبر‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 103‏]‏ وحكي عن الحسن أن ذاك حين يؤمر بالعبد إلى النار، وعن ابن جريج أنه حين يذبح الموت وينادي يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت وهو كذلك في قراءة التنوين وقراءة الإضافة ولا يراد به في القراءة الثانية جميع الأفزاع الحاصلة يومئذٍ، ومدار الإضافة كون ذلك أعظم الأفزاع وأكبرها كأن ما عداه ليس بفزع بالنسبة إليه وقال تبعاً لغيره إن الفزع المدلول عليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَفَزِعَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 87‏]‏ الخ ليس إلا التهيب والرعب الحاصل في ابتداء الإحساس بالشيء الهائل ولا يكاد يخلو منه أحد بحكم الجبلة وإن كان آمناً من لحاق الضرر به‏.‏

وقال أبو علي‏:‏ يجوز أن يراد بالفزع في القراءتين فزع واحد وأن يراد به الكثرة لأنه مصدر فإنه أريد الكثرة شمل كل فزع يكون في القيامة وإن أريد الواحد فهو الذي أشير إليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الاكبر‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 103‏]‏ وسيأتي إن شاء الله تعالى قريباً تتمة للكلام في الآية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏

‏{‏وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏90‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَن جَاء بالسيئة‏}‏ وهو الشرك وبه فسرها من فسر ‏{‏الحسنة‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 89‏]‏ بشهادة أن لا إله إلا الله وقد علمت من هم، وقيل‏:‏ المراد بها ما يعم الشرك وغيره من السيئات‏:‏ ‏{‏فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِى النار‏}‏ أي كبوا فيها على وجوههم منكوسين، فإسناد الكب إلى الوجوه مجازي لأنه يقال كبه وأكبه إذا نكسه، وقيل‏:‏ يجوز أن يراد بالوجوه الأنفس كما أريدت بالأيدي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 195‏]‏ أي فكبت أنفسهم في النار ‏{‏هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ على الالتفات للتشديد أو على إضمار القول أي مقولاً لهم ذلك فلا التفات فيه لأنه في كلام آخر ومن شروط الالتفات اتحاد الكلامين كما حقق في المعاني، واستدل بعض المرجئة القائلين بأنه لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَن جَاء بالحسنة‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 89‏]‏ الخ على أن المؤمن العاصي لا يعذب يوم القيامة وإلا لم يكن آمناً من فزع مشاهدة العذاب يومئذٍ وهو خلاف ما دلت عليه الآية الكريمة، وأجيب بمنع دخول المؤمن العاصي في عموم الآية لأن المراد بالحسنة الحسنة الكاملة وهو الإيمان الذي لم تدنسه معصية، وذلك غير متحقق فيه أو لأن المتبادر المجىء بالحسنة غير مشوبة بسيئة وهو أيضاً غير متحقق فيه ومن تحقق فيه فهو آمن من ذلك الفزع بل لا يبعد أن يكون آمناً من كل فزع من أفزاع يوم القيامة وإن سلم الدخول قلنا المراد بالفزع الآمن منه من جاء بالحسنة ما يكون حين يذبح الموت وينادي المنادي يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت كما سمعت عن ابن جريج أو حين تطبق جهنم على أهلها فيفزعون كما روي عن الكلبي وليس ذلك إلا بعد تكامل أهل الجنة دخولاً الجنة والعذاب الذي يكون لبعض عصاة المؤمنين إنما هو قبل ذلك والآية لا تدل على نفيه بوجه من الوجوه‏.‏

وأجاب بعضهم بأنه يجوز أن يكون المؤمن العاصي آمناً من فزع مشاهدة العذاب، وأن عذب لعلمه بأنه لا يخلد فيعد عذابه كالمشاق التي يتكلفها المحب في طريق وصال المحبوب وهذا في غاية السقوط كما لا يخفى‏.‏

واستدل بعض المعتزلة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَن جَاء بالسيئة‏}‏ الخ على عدم الفرق بين عذاب الكافر وعذاب المؤمن العاصي لأن ‏{‏مَن جَاء بالسيئة‏}‏ يعمهما وقد أثبت له الكب على الوجوه في النار فحيث كان ذلك بالنسبة إلى الكافر على وجه الخلود كان بالنسبة إلى المؤمن العاصي كذلك، وأجيب بأن المراد بالسيئة الإشراك كما روي تفسيرها به عن أكثر سلف الأمة فلا يدخل المؤمن العاصي فيمن جاء بالسيئة ولو سلم دخوله بناءاً على القول بعموم السيئة فلا نسلم أن في الآية دلالة على خلوده في النار وكون الكب في النار بالنسبة إلى الكافر على وجه الخلود لا يقتضي أن يكون بالنسبة إليه كذلك فكثيراً ما يحكم على جماعة بأمر كلي ويكون الثابت لبعضهم نوعاً وللبعض الآخر نوعاً آخر منه وهذا مما لا ريب فيه، ثم إن الآية من باب الوعيد فيجري فيها على تقدير دخول المؤمن العاصي في عموم من ما قاله الأشاعرة في آيات الوعيد فافهم وتأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

‏{‏إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبّ هَذِهِ البلدة الذى حَرَّمَهَا‏}‏ استئناف بتقدير قل قبله وهو أمر له عليه الصلاة والسلام بأن يقول لهؤلاء الكفرة ذلك بعد ما بين لهم أحوال المبدأ والمعاد وشرح أحوال القيامة إثارة لهممهم بألطف وجه إلى أن يشتغلوا بتدارك أحوالهم وتحصيل ما ينفعهم والتوجه نحو التدبر فيما قرع أسماعهم من الآيات الباهرة الكافية في إرشادهم والشافية لعللهم والبلدة على ما روي عن ابن عباس وقتادة وغيرهما هي مكة المعظمة، وفي تاريخ مكة أنها منى قال حدثنا يحيى بن ميسرة عن خلاد بن يحيى عن سفيان أنه قال‏:‏ البلدة منى والعرب تسميها بلدة إلى الآن‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية تفسيرها بذلك أيضاً، وذكر بعض الأجلة أن أكثر المفسرين على الأول وتخصيصها بالإضافة لتفخيم شأنها وإجلال مكانها والتعرض لتحريمه تعالى إياها تشريف لها بعد تشريف وتعظيم إثر تعظيم مع ما فيه من الإشعار بعلة الأمر وموجب الامتثال به كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ‏}‏ ‏[‏قريش‏:‏ 3، 4‏]‏ ومن الرمز إلى غاية شناعة ما فعلوا فيها ألا ترى أنهم مع كونها محرمة من أن تنتهك حرمتها باختلاء خلاها وعضد شجرها وتنفير صيدها وإرادة الإلحاد فيها قد استمروا فيها على تعاطي أفظع أفراد الفجور وأشنع آحاد الإلحاد حيث تركوا عبادة ربها ونصبوا فيها الأوثان وعكفوا على عبادتها قاتلهم الله تعالى أنى يؤفكون، ولا تعارض بين ما في الآية من نسبة تحريمها إليه عز وجل وما في قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ إن إبراهيم عليه السلام حرم مكة وأنا حرمت المدينة ‏"‏ من نسبة تحريمها إلى إبراهيم عليه السلام لأن ما هنا باعتبار أنه هو المحرم في الحقيقة وما في الحديث باعتبار أن إبراهيم عليه السلام مظهر لحكمه عز شأنه‏.‏

وقرأ ابن عباس وابن مسعود التي صفة للبلدة وقراءة الجمهور أبلغ في التعظيم، ففي «الكشف» أن إجراء الوصف على الرب تعالى شأنه، تعظيم لشأن الوصف ولشأن ما يتعلق به الوصف وزيادة اختصاص له بمن أجرى عليه الوصف على سبيل الإدماج وجعل ذلك كالمسلم المبرهن ولا كذلك لو وصفت البلدة بوصف تخصيصاً أو مدحاً‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَهُ كُلُّ شَىء‏}‏ أي خلقاً وملكاً وتصرفاً، من غير أن يشاركه سبحانه شيء في شيء من ذلك تحقيق للحق، وتنبيه على أن إفراد مكة بالإضافة لما مر من التفخيم والتشريف مع عموم الربوبية لجميع الموجودات، واستدل به بعض الناس لجواز ما يقوله جهلة المتصوفة شيء لله، لأنه في معنى كل شيء لله عز وجل، نحو تمرة خير من جرادة، وأنت تعلم أنهم لا يأتون به لإرادة ذلك بل يقولون‏:‏ شيء لله يا فلان لبعض الأكابر من أهل القبور، إما على معنى أعطني شيئاً لوجه الله تعالى يا فلان، أو أنت شيء عظيم من آثار قدرة الله تعالى؛ وقد وجهه بذلك من لم يكفرهم به وهو الحق وإن كان في ظاهره على أول التوجيهين طلب شيء ممن لا قدرة له على شيء نعم الأولى صيانة اللسان عن أمثال هذه الكلمات‏.‏

‏{‏وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين‏}‏ أي أثبت على ما كنت عليه من كوني من جملة الثابتين على ملة الإسلام والتوحيد أو الذين أسلموا وجوههم لله تعالى خالصة من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 125‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏92‏]‏

‏{‏وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ ‏(‏92‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنْ أَتْلُوَ القرءان‏}‏ أي أواظب على قراءته على الناس بطريق تكرير الدعوة وتثنيته الإرشاد لكفايته في الهداية إلى طريق الرشاد، وقيل أي أواظب على قراءته لينكشف لي حقائقه الرائقة المخزونة في تضاعيفه شيئاً فشيئاً فإن المواظبة على قراءته من أسباب فتح باب الفيوضات الإلهية والأسرار القدسية، وقد حكي أنه صلى الله عليه وسلم قام ليلة يصلي فقرأ قواله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 118‏]‏ فما زال يكررها ويظهر له من أسرارها ما يظهر حتى طلع الفجر، وقيل أتلو من تلاه إذا تبعه، أي وأن أتبع القرآن، وهو خلاف الظاهر، ويؤيد ما ذكرناه أولاً من المعنى ما في حرف أبي كما أخرجه أبو عبيد‏.‏ وابن المنذر عن هارون واتل عليهم القرآن وحكى عنه في «البحر» أنه قرأ واتل هذا القرآن، ولا تأييد فيه لما ذكرنا‏.‏ وقرأ عبد الله وأن أتل بغير واو أمراً من تلا فجاز أن تكون أن مصدرية وصلت بالأمر، وجاز أن تكون مفسرة على إضمار أمرت ‏{‏فَمَنُ اهتدى‏}‏ أي بالإيمان بالقرآن والعمل بما فيه من الشرائع والأحكام، وقيل أي بالاتباع فيما ذكر من العبادة والإسلام، وتلاوة القرآن أو اتباعه ‏{‏فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ‏}‏ أي فإنما منافع اهتدائه تعود إليه ‏{‏وَمَن ضَلَّ‏}‏ بالكفر به والإعراض عنه، وقيل بالمخالفة فيما ذكر ‏{‏فَقُلْ‏}‏ أي له‏.‏

‏{‏إِنَّمَا أَنَاْ مِنَ المنذرين‏}‏ وقد خرجت عن عهدة الإنذار فليس علي من وبال ضلالك شيء وإنما هو عليك فقط ويعلم مما ذكرنا أن جواب الشرط جملة القول وما في حيزه والرابط المشترط في مثله محذوف وقدره بعضهم بعد المنذرين أي من المنذرين إياه، وجوز أبو حيان كون الجواب محذوفاً أي من ضل فوبال ضلاله مختص به وحذف ذلك لدلالة جواب مقابله عليه، وجوز بعضهم كون الجملة بعد هي الجواب ولكونها كناية تعريضية عما قدره أبو حيان لم تحتج إلى رابط ثم أن ظاهر التصريح بقل هنا يقتضي أن يكون فمن اهتدى الخ من كلامه عز وجل عقب به أمره صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم ما قبله، ولا بعد في كونه من مقول القول المقدر قبل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أُمِرْتُ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 91‏]‏ كما سمعت‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

‏{‏وَقُلِ الحمد لِلَّهِ‏}‏ أي على ما أفاض علي من نعمائه التي من أجلها نعمة النبوة المستتبعة لفنون النعم الدينية والدنيوية ووفقني لتحمل أعبائها وتبليغ أحكامها بالآيات البينة والبراهين النيرة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَيُرِيكُمْ ءاياته‏}‏ من جملة الكلام المأمور به أي قل سيريكم آياته سبحانه‏:‏ ‏{‏فَتَعْرِفُونَهَا‏}‏ أي فتعرفون أنها آيات الله تعالى حيث لا تنفعكم المعرفة، وقيل‏:‏ أي سيريكم في الدنيا والمراد بالآيات الدخان وما حل بهم من نقمات الله تعالى وعد منها قتل يوم بدر واعتراف المقتولين بذلك بالفعل واعتراف غيرهم بالقوة، وقيل‏:‏ هي خروج الدابة وسائر أشراط الساعة والخطاب لجنس الناس لا لمن في عهد النبوة‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم وجماعة عن مجاهد أن المراد بالآيات الآيات الأنفسية والآفاقية فالآية كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَنُرِيهِمْ ءاياتنا فِى الافاق وَفِى أَنفُسِهِمْ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 53‏]‏؛ وقيل‏:‏ المراد بها معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم وإضافتها إلى ضميره تعالى لأنها فعله عز وجل أظهرها على يد رسوله عليه الصلاة والسلام للتصديق، والمراد بالمعرفة ما يجامع الجحود، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ كلام مسوق من جهته سبحانه بطريق التذييل مقرر لما قبله متضمن للوعد والوعيد كما ينبىء عنه إضافة الرب إلى ضميره صلى الله عليه وسلم وتخصيص الخطاب أولاً‏:‏ به عليه الصلاة والسلام وتعميمه ثانياً‏:‏ للكفرة تغليباً أي وما ربك بغافل عما تعمل أنت من الحسنات وما تعملون أنتم أيها الكفرة من السيئات فيجازي كلاً منكم بعمله لا محالة، وقرأ الأكثر يعملون بياء الغيبة فهو وعيد محض والمعنى وما ربك بغافل عن أعمالهم فسيعذبهم البتة فلا يحسبوا أن تأخير عذابهم لغفلته سبحانه عن أعمالهم الموجبة له ومن تأمل في الآيات ظهر له أن هذه الخاتمة مما تدهش العقول وتحير الأفهام ولله تعالى در التنزيل وماذا عسى يقال في كلام الملك العلام‏.‏

ومن باب الإشارة في الآيات ما قيل‏:‏ وأنزل من السماء أي سماء القلب ماءً هو ماء نظر الرحمة فأنبتنا به حدائق ذات بهجة من العلوم والمعاني والأسرار والحكم البالغة، ‏{‏ما كان لكم أن تنبتوا شجرها‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 60‏]‏ أي أصولها لما أن العلوم الإلهية غير اختيارية بل كل علم ليس باختياري في نفسه وإلا لزم تقدم الشيء على نفسه نعم هو اختياري باعتبار الأسباب ‏{‏أَم مَّنْ جَعَلَ الارض‏}‏ أي أرض النفس قراراً في الجسد ‏{‏وَجَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَاراً‏}‏ من دواعي البشرية ‏{‏وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ‏}‏ من قوى البشرية والحواس ‏{‏وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين‏}‏ بحر الروح وبحر النفس ‏{‏حَاجِزاً‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 61‏]‏ وهو القلب ‏{‏أَم مَّنْ يُجِيبُ المضطر‏}‏ وهو المستعد لشيء من الأشياء ‏{‏إِذَا دَعَاهُ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 62‏]‏ بلسان الاستعداد وطلب منه تعالى ما استعد له، وقال بعضهم‏:‏ المضطر المستغرق في بحار شوقه تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا وَقَعَ القول عَلَيْهِم أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً‏}‏ وهي النفس الناطقة والروح الإنساني

‏{‏مّنَ الارض‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 82‏]‏ أي أرض البشرية وعلى هذا النمط تكلموا في سائر الآيات وسائق الشيخ الأكبر قدس سره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 88‏]‏ دليلاً على ما يدعيه من تجدد الجواهر كالأعراض عند الأشعري وعدم بقائها زمانين، ومبنى ذلك عنده القول بوحدة الوجود وأنه سبحانه كل يوم هو في شأن، والكلام في صحة هذا المبنى واستلزامه للمدعي لا يخفي على العارض، وأما الاستدلال بهذه الآية لهذا المطلب فمن أمهات العجائب وأغرب الغرائب والله تعالى أعلم‏.‏

‏[‏سورة القصص‏]‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 2‏]‏

‏{‏طسم ‏(‏1‏)‏ تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ‏(‏2‏)‏‏}‏

بسم الله الرحمن الرحيم ‏{‏طسم تِلْكَ ءايات الكتاب المبين‏}‏ قد مر ما يتعلق به من الكلام في أشباهه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏نَقُصُّ عَلَيْكَ‏}‏ أي نقرأ بواسطة جبرائيل عليه السلام فالإسناد مجازي كما في بني الأمير المدينة‏.‏ والتلاوة في كلامهم على ما قال الراغب تختص باتباع كتب الله تعالى المنزلة تارة بالقراءة وتارة بالارتسام لما فيه من أمر ونهي وترغيب وترهيب أو ما يتوهم فيه ذلك وهو أخص من القراءة، ويجوز أن تكون التلاوة هنا مجازاً مرسلاً عن التنزيل بعلاقة أن التنزيل لازم لها أو سببها في الجملة وأن تكون استعارة له لما بينهما من المشابهة فإن كلاً منهما طريق للتبليغ فالمعنى ننزل عليك ‏{‏مِن نَّبَإِ موسى وَفِرْعَوْنَ‏}‏ أي من خبرهما العجيب الشأن، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لمفعول نتلو المحذوف أي نتلو شيثاً كائناً من نبئهما‏.‏

والظاهر أن ‏{‏مِنْ‏}‏ تبعيضية، وجوز بعضهم كونها بيانية وكونها صلة على رأس الأخفش فنبأ مجرور، لفظاً مرفوع محلاً مفعول نتلو ويوهم كلام بعضهم أن ‏{‏مِنْ‏}‏ هو المفعول كأنه قيل‏:‏ نتلو بعض نبأ وفيه بحث، وأياً ما كان فلا تجوز في كون النبأ متلواً لما أنه نوع من اللفظ، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بالحق‏}‏ متعلق بمحذوف وقع حالاً من فاعل نتلو أي نتلو ملتبسين ‏{‏بالحق‏}‏ أو مفعوله أي نتلو شيئاً من نبئهما ملتبساً بالحق أو وقع صفة ملصدر نتلو أي نتلو تلاوة ملتبسة بالحق؛ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ متعلق بنتلو واللام للتعليل وتخصيص المؤمنين بالذكر مع عموم الدعوة والبيان لأنهم المنتفعون به، وقد تقدم الكلام في شمول ‏{‏يُؤْمِنُونَ‏}‏ للمؤمنين حالاً واستقبالاً في السورة السابقة، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الارض‏}‏ استئناف جار مجرى التفسير للمجمل الموعود وتصديره بحرف التأكيد للاعتناء بتحقيق مضمون ما بعده أي ‏{‏إِنَّ فِرْعَوْنَ‏}‏ تجبر وطغى في أرض مصر وجاوز الحدود المعهودة في الظلم والعدوان ‏{‏وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً‏}‏ أي فرقاً يشيعونه في كل ما يريده من الشر والفساد أو يشيع بعضهم بعضاً في طاعته أو أصنافاً في استخدامه يستعمل كل صنف في عمل من بناء وحرث وحفر وغير ذلك من الأعمال الشاقة ومن لم يعمل ضرب عليه الجزية فيخدمه بأدائها أو فرقاً مختلفة قد أغرى بينهم العداوة والبغضاء لئلا تتفق كلمتهم ‏{‏يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مّنْهُمْ‏}‏ أي يجعلهم ضعفاء مقهورين؛ والمراد بهذه الطائفة بنو إسرائيل وعدهم من أهلها للتغليب أو لأنهم كانوا فيها زماناً طويلاً، والجملة أما استئناف نحوي أو بياني في جواب ماذا صنع بعد ذلك، وإما حال من فاعل جعل أو من مفعول‏.‏ وأما صفة لشيعا والتعبير بالمضارع لحكاية الحال الماضية، وقوله تعالى‏:‏

‏{‏يُذَبّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْىِ نِسَاءهُمْ‏}‏ بدل من الجملة قبلها بدل اشتمال أو تفسير حال من فاعل يستضعف أو صفة لطائفة أو حال منها لتخصصها بالوصف وكان ذلك منه لما أن كاهناً قال له يولد في بني إسرائيل مولود يذهب ملكك على يده‏.‏

وقال السدي‏:‏ إنه رأى في منامه أن ناراً أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر فأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل فسأل علماء قومه فقالوا‏:‏ يخرج من هذا البلد رجل يكون هلاك مصر على يده فأخذ يفعل ما يفعل ولا يخفى أنه من الحمق بمكان إذ لو صدق الكاهن أو الرؤيا فما فائدة القتل وإلا فما وجهه، وفي الآية دليل على أن قتل الأولاد لحفظ الملك شريعة فرعونية‏.‏

وقرأ أبو حيوة وابن محيصن ‏{‏يُذَبّحُ‏}‏ بفتح الياء وسكون الذال ‏{‏إِنَّهُ كَانَ مِنَ المفسدين‏}‏ أي الراسخين في الإفساد ولذلك اجترأ على مثل تلك العظيمة من قتل من لا جنحة له من ذراري الأنبياء عليهم السلام لتخيل فاسد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ‏}‏ أي نتفضل ‏{‏عَلَى الذين استضعفوا فِى الارض‏}‏ على الوجه المذكور بإنجائهم من بأسه، وصيغة المضارع في نريد لحكاية الحال الماضية وأما نمن فمستقبل بالنسبة للإرادة فلا حاجة لتأويله وهو معطوف على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 4‏]‏ الخ لتناسبهما في الوقوع في حيز التفسير للنبأ وهذا هو الظاهر‏.‏

وجوز أن تكون الجملة حالاً من مفعول ‏{‏يستضعف‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 4‏]‏ بتقدير مبتدأ أي يستضعفهم فرعون ونحن نريد أن نمن عليهم وقدر المبتدأ ليجوز التصدير بالواو، وجوز أن يكون حالاً من الفاعل بتقدير المبتدا أيضاً وخلوها عن العائد عليه وما يقوم مقامه لا يضر لأن الجملة الحالية إذا كانت اسمية يكفي في ربطها الواو وضعف بأنه لا شبهة في استهجان ذلك مع حذف المبتدأ، وتعقب القول بصحة الحالية مطلقاً بأن الأصل في الحال المقارنة والمن بعد الاستضعاف بكثير، وأجيب بأن الحال ليس المن بل إرادته وهي مقارنة وتعلقها إنما هو بوقوع المن في الاستقبال فلا يلزم من مقارنتها مقارنته على أن منّ الله تعالى عليهم بالخلاص لما كان في شرف الوقوع جاز إجراؤه مجرى الواقع المقارن للاستضعاف وإذا جعلت الحال مقدرة يرتفع القيل والمقال، وجوز بعضهم عطف ذلك على ‏{‏نتلو‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 3‏]‏ و‏{‏يستضعف‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 4‏]‏، وقال الزمخشري‏:‏ هو غير سديد، ووجه ذلك في الكشف بقوله أما الأول‏:‏ فلما يلزم أن يكون خارجاً عن المنبأ به وهو أعظمه وأهمه، وأما الثاني‏:‏ فلأنه إما حال عن ضمير ‏{‏جعل‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 4‏]‏ أو عن مفعوله أو صفة لشيعا أو كلام مستأنف وعلى الأولين ظاهر الامتناع وعلى الثالث‏:‏ أظهر إذ لا مدخل لذلك في الجواب عن السؤال الذي يعطيه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏جَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 4‏]‏ والعطف يقتضي الاشتراك لكن للعطف على ‏{‏يستضعف‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 4‏]‏ مساغ على تقدير الوصف والمعنى جعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم ونريد أن نمن عليهم منهم أي على الطائفة من الشيع فأقيم المظهر مقام المضمر الراجع إلى الطائفة وحذف الراجع إلى الشيع للعلم كأنه قيل‏:‏ يستضعفهم ونريد أن نقويهم كما زعم الزمخشري في الوجه الذي جعله حالاً من مفعول يستضعف والحاصل شيعاً موصوفين باستضعاف طائفة وإرادة المن على تلك الطائفة منهم بدفع الضعف‏.‏

فإن قلت‏:‏ يدفعه أن العلم بالصفة الثانية لم يكن حاصلاً بخلاف الأولى قلنا كذلك لم يكن حاصلاً باستضعاف مقيد بحال الإرادة والحق أن الوجهين يضعفان لذلك وإنما أوردناه على الزمخشري لتجويزه الحال انتهى‏.‏ وأورد عليه أن للعطف عليه على تقدير كونه حالاً مساغاً أيضاً بعين ما ذكره فلا وجه للتخصيص بالوصفية وأن عدم حصول العلم بالصفة الثانية بعد تسليم اشتراط العلم بالصفة مطلقاً غير مسلم فإن سبب العلم بالأولى وهو الوحي أو خبر أهل الكتاب، يجوز أن يكون سبباً للعلم بالثانية، وأيضاً يجوز أن يخصص جواز حالية ونريد الخ باحتمال الاستئناف والحالية في يستضعف دون الوصف فلا يكون مشترك الإلزام، وفيه أن احتمال الحالية من المفعول لم يذكره الزمخشري فلذا لم يلتفت صاحب الكشف إلى أن للعطف عليه مساغاً وأن اشتراط العلم بالصفة مما صرح به في مواضع من الكشاف والكلام معه وأن العلم بصفة الاستضعاف لكونه مفسراً بالذبح والاستحياء وذلك معلوم بالمشادة وليس سبب العلم ما ذكر من الوحي أو خبر أهل الكتاب وفي هذا نظر، والانصاف أن قوله تعالى‏:‏

‏{‏إِنَّ فِرْعَوْنَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 4‏]‏ الخ لا يظهر كونه بياناً لنبأ موسى عليه السلام وفرعون معاً على شيء من الاحتمالات ظهوره على احتمال العطف على ‏{‏إن فرعون‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 4‏]‏ وإدخاله في حيز البيان وإلا فالظاهر من إن فرعون الخ بدون هذا المعطوف أنه بيان لنبإ فرعون فقط فتأمل ‏{‏وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً‏}‏ مقتدى بهم فـ يالدين والدنيا على ما في «البحر»، وقال مجاهد دعاة إلى الخير‏.‏ وقال قتادة ولاة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 20‏]‏ وقال الضحاك أنبياء وأياً ما كان ففيه نسية ما للبعض إلى الكل ‏{‏وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين‏}‏ لجميع ما كان منتظماً في سلك ملك فرعون وقومه على أكمل وجه كما يومىء إليه التعريف وذلك بأن لا ينازعهم أحد فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏وَنُمَكّنَ لَهُمْ فِى الارض‏}‏ أي في أرض مصر، وأصل التمكين أن يجعل الشيء مكاناً يتمكن فيه ثم استعير للتسليط وإطلاق الأمر وشاع في ذلك حتى صار حقيقة لغوية فالمعنى نسلطهم على أرض مصر يتصرفون وينفذ أمرهم فيها كيفما يشاؤون، وظاهر كلام بعضهم أن المراد بالأرض ما يعم مصر والشام مع أن المعهود هو أرض مصر لا غير وكأن ذلك لما أن الشام مقر بني إسرائيل‏.‏ وقرأ الأعمش ولنمكن بلام كي أي وأوردنا ذلك لنمكن فعلنا ذلك‏.‏

‏{‏وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وهامان وَجُنُودَهُمَا‏}‏ إضافة إلى الجنود إلى ضمير هما إما للتغليب أو لأنه كان لهامان جند مخصوصون به وإن كان وزيراً أو لأن جند السلطان جند الوزير، ونرى من الرؤية البصرية على ما هو المناسب للبلاغة، وجوز أن يكون من الرؤية القلبية التي هي بمعنى المعرفة، وعلى الوجهين هو ناصب لمفعولين لمكان الهمزة ففرعون وما عطف عليه مفعول له الأول، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْهُمْ‏}‏ أي من أولئك المستضعفين متعلق به، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ‏}‏ أي يتوقون من ذهاب ملكهم وهلكهم على يد مولود منهم مفعوله الثاني، والرؤية على تقدير كونها بصرية لمقدمات ذلك وعلاماته في الحقيقة لكنها جعلت له مبالغة مثله مستفيض بينهم حتى يقال رأى موته بعينه وشاهد هلاكه وعليه قول بعض المتأخرين‏:‏

أبكاني البين حتى *** رأيت غسلي بعيني

وقيل‏:‏ المراد رؤية وقت ذلك، وليس بذاك، والأمر على تقدير كونها بمعنى المعرفة فظاهر‏.‏ لأنهم قد عرفوا ذهاب ملكهم وهلاكهم، لما شاهدوه من ظهور أولئك المستضعفين عليهم، وطلوع طلائعه من طرق خذلانهم‏.‏ وفسر بعضهم الموصول بظهور موسى عليه السلام، وهو خلاف الظاهر المؤيد بالآثار وكأن ذلك منه لخفاء وجه تعلق رؤية فرعون ومن معه بذهاب ملكهم وهلكهم عليه وقد علمت وجهه، وقرأ عبد الله‏.‏ وحمزة‏.‏ والكسائي ويرى بالياء مضارع رأى، وفرعون بالرفع على الفاعلية، وكذا ما عطف عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَوْحَيْنَا إلى أُمّ موسى‏}‏ قيل هي محيانة بنت يصهر بن لاوي، وقيل يوخابذ وقيل يارخا وقيل يارخت، وقيل غير ذلك‏.‏ والظاهر أن الإيحاء إليها كان بإرسال ملك، ولا ينافي حكاية أبي حيان الإجماع على عدم نبوتها، لما أن الملائكة عليهم السلام قد ترسل إلى غير الأنبياء وتكلمهم، وإلى هذا ذهب قطرب وجماعة‏.‏ وقال مقاتل منهم‏:‏ إن الملك المرسل إليها هو جبريل عليه السلام‏.‏ وعن ابن عباس‏.‏ وقتادة أنه كان إلهاماً، ولا يأباه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وجاعلوه مِنَ المرسلين‏}‏ نعم هو أوفق بالأول‏.‏ وقال قوم‏:‏ إنه كان رؤيا منام صادقة قص فيها أمره عليه السلام، وأوقع الله تعالى في قلبها اليقين‏.‏ وحكى عن الجبائي أنها رأيت في ذلك رؤيا، فقصتها على من تثق به من علماء بني إسرائيل فعبرها لها‏.‏ وقيل كان بأخبار نبي في عصرها إياها‏.‏ والظاهر أن هذا الإيجاء كان بعد الولادة، وفي الأخبار ما يشهد له، فيكون في الكلام جملة محذوفة، وكأن التقدير والله تعالى أعلم‏:‏ ووضعت موسى أمه في زمن الذبح فلم تدر ما تصنع في أمره وأوحينا إليها ‏{‏أَنْ أَرْضِعِيهِ‏}‏ وقيل‏:‏ كان قبل الولادة، وأن تفسيرية أو مصدرية، والمراد أن أرضعيه ما أمكنك إخفاؤه‏.‏ وقرأ عمر بن عبد الواحد‏.‏ وعمر بن عبد العزيز أن أرضعيه بكسر النون بعد حذف الهمزة على غير قياس لأن القياس فيه نقل حركتها وهي الفتحة إلى النون كما في قراءة ورش‏.‏

‏{‏فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ‏}‏ من جواسيس فرعون ونقبائه الذين يقتلون الأبناء، أو من الجيران ونحوهم أن ينمو عليه ‏{‏فَأَلْقِيهِ فِى اليم‏}‏ أي في البحر‏.‏ والمراد به النيل، ويسمى مثله بحراً، وإن غلب في غير العذب ‏{‏وَلاَ تَخَافِى‏}‏ عليه ضيعة أو شدة من عدم رضاعه في سن الرضاع ‏{‏وَلاَ تَحْزَنِى‏}‏ من مفارقتك إياه ‏{‏إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ‏}‏ عن قريب بحيث تأمنين عليه ويومىء إلى القرب السياق‏.‏ وقيل التعبير باسم الفاعل لأنه حقيقة في الحال ويعتبر لذلك في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وجاعلوه مِنَ المرسلون‏}‏ ولا يضر تفاوت القربين، والجملة تعليل للنهي عن الخوف والحزن، وإيثار الجملة الاسمية وتصديرها بحرف التحقيق للاعتناء بتحقيق مضمونها أي إنا فاعلون ردّه، وجعله من المرسلين لا محالة‏.‏ واستفصح الأصمعي امرأة من العرب أنشدت شعراً فقالت‏:‏ أبعد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَوْحَيْنَا إلى أُمّ موسى‏}‏ الآية فصاحة وقد جمع بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين‏.‏ والفاء في قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏فالتقطه ءالُ فِرْعَوْنَ‏}‏ فصيحة والتقدير ففعلت ما أمرت به من إرضاعه والقائه في اليم لما خافت عليه، وحذف ما حذف تعويلاً على دلالة الحال وإيذاناً بكمال سرعة الامتثال‏.‏

وروى أنها لما ضربها الطلق دعت قابلة من الموكلات بحبالى بني إسرائيل فعالجتها، وفلما وقع موسى عليه السلام على الأرض هالها نور بين عينيه وارتعش كل مفصل منها ودخل حبه قلبها بحيث منعها من السعابة فقالت لأمه‏:‏ احفظيه، فلما خرجت جاء عيون فرعون فلفته في خرقة وألقته في تنور مسجور لم تعلم ما تصنع لما طاش من عقلها، فطلبوا فلم يجدوا شيئاً فخرجوا وهي لا تدري مكانه فسمعت بكاءه من التنور فانطلقت إليه وقد جعل الله تعالى النار عليه برداً وسلاماً فأخذته، فلما ألح فرعون في طلب الولدان واجتهد العيون في تفحصها أوحى الله تعالى إليها ما أوحى، وأرضعته ثلاثة أشهر، أو أربعة، أو ثمانية على اختلاف الروايات، فلما خافت عليه عمدت إلى بردى فصنعت منه تابوتاً أي صندوقاً فطلته القار من داخله‏.‏ وعن السدي أنها دعت نجاراً، فصنع لها تابوتاً، وجعلت مفتاحه من داخل، ووضعت موسى عليه السلام فيه وألقته في النيل بين أحجار عند بيت فرعون، فخرج جواري آسية امرأة فرعون يغتسلن فوجدنه فأدخلنه إليها وظنن أن فيه مالاً، فلما فتحنه رأته آسية ووقعت عليه رحمتها فأحبته، وأراد فرعون قتله فلم تزل تكلمه حتى تركه لها‏.‏ وروى عن ابن عباس وغيره أنه كان لفرعون يومئذ بنت لم يكن له ولد غيرها وكانت من أكرم الناس إليه، وكان بها برص شديد أعيا الأطباء، وكان قد ذكر له أنها لا تبرأ إلا من قبل البحر يؤخذ منه شبه الإنس يوم كذا من شهر كذا حين تشرق الشمس فيؤخذ من ريقه فيلطخ به برصها فتبرأ فلما كان ذلك اليوم غدا فرعون في مجلس له على شفير النيل ومعه امرأته آسية وأقبلت بنته في جواريها حتى جلست على شاطىء النيل فإذا بتابوت تضربه الأمواج فتعلق بشجرة فقال فرعون ائتوني به فابتدروا بالسفن فأحضروه بين يديه فعالجوا فتحه فلم يقدروا عليه وقصدوا كسره فأعياهم فنظرت آسية فكشف لها عن نور في جوفه لم يره غيرها فعالجته ففتحته فإذا صبي صغير فيه وله نور بين عينيه وهو يمص إبهامه لبنا فألقى الله تعالى محبته عليه السلام في قلبها وقلوب القوم وعمدت بنت فرعون إلى ريقه فلطخت به برصها فبرأت من ساعتها‏.‏

وقيل‏:‏ لما نظرت إلى وجهه برأت فقالت الغواة من قوم فرعون أنا نظن أن هذا هو الذي نحذر منه رمى في البحر خوفا منك فاقتله فهم أن يقتله فاستوهبته آسية فتركه كما سيأتي إن شاء الله تعالى والأخبار في هذه القصة كثيرة، وقد قدمنا منها ما قدمنا، وآل فرعون أتباعه وقولهم‏:‏ إن الآل لا يستعمل إلا فيما فيه شرف مبني على الغالب أو الشرف فيه أعم من الشرف الحقيقي والصوري ومعنى التقاطهم إياه عليه السلام أخذهم أياه عليه السلام أخذ اللقطة أي أخذ اعتناء به وصيانة له عن الضياع ‏{‏لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً‏}‏ فيه استعارة تهكمية ضرورة أنه لم يدعهم للالتقاط أن يكون لهم عدواً وحزناً وإنما دعاهم شيء آخر كالتبني ونفعه إياهم إذا كبر‏.‏

وفي تحقيق ذلك أقوال الأول أن يشبه كونه عدوّاً وحزناً بالعلة الغائية كالتبني والنفع تشبيهاً مضمراً في النفس ولم يصرح بغير المشبه ويدل على ذلك بذكر ما يخص المشبه به وهو لام التعليل فيكون هناك استعارة مكنية أصلية في المجرور واللام على حقيقتها، الثاني أن يشبه أولاً ترتب غير العلة الغائية بترتب العلة الغائية أي يعتبر التشبيه بين الترتبين الكليين ليسري في جزئياتهما فيتحقق تبعاً تشبيه ترتب كونه عدواً وحزناً أعني الترتب المخصوص على الالتقاط بترتب التبني ونحوه مما هو علة غائية أعني الترتب المخصوص أيضاً عليه ثم يستعمل في المشبه اللام الموضوعة للدلالة على ترتب العلة الغائية الذي هو المشبه به فتكون الاستعارة أولاً في العلية والغرضية وتبعاً في اللام فصار حكم اللام حكم الأسد حيث استعيرت لما يشبه العلة كما استعير الأسد لما يشبه الأسد بيد أن الاستعارة ههنا مكنية تبعية، الثالث ما أفاده كلام الخطيب الدمشقي في التلخيص والإيضاح وهو أن يقدر التشبيه أولاً لكونه عدواً وحزناً بالعلة الغائية ثم يسري ذلك التشبيه إلى تشبيه ترتبه بترتب العلة الغائية فتستعار اللام الموضوعة لترتب العلة الغائية لترتب كونه عدواً وحزناً من غير استعارة في المجرور وهذا التشبيه كتشبيه الربيع بالقادر المختار ثم إسناد الانبات إليه وهو مفاد كلام الكشاف، واختار ذلك العلامة عبد الحكيم، فقال‏:‏ وو الحق عندي لأن اللام لما كان معناها محتاجاً إلى ذكر المجرور كان اللائق أن تكون الاستعارة والتشبيه فيها تابعاً لتشبيه المجرور لا تابعاً لتشبيه معنى كلي بمعنى كلي معنى الحرف من جزئياته كما ذهب إليه السكاكي وتبعه العلامة التفتازاني انتهى فتأمل‏.‏

واستشكل أصل تعليل الالتقاط بأن الالتقاط الوجدان من غير قصد والتعليل يقتضي حقيقة القصد وهو توهم لأن الوجدان من غير قصد لا ينافي قصد أخذ ما وجد لغرض وقد علمت أن المعنى هنا فأخذه أخذ اللقطة أي أخذ اعتناء به آل فرعون ليكون الخ، والتعليل فيه إنما هو للأخذ ولا إشكال فيه‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ يحتمل تعلق اللام بمقدار أي قدرنا الالتقاط فيكون الخ، وعليه لا تجوز في الكلام إلا عند من يقول‏:‏ إن أفعال الله تعالى لا تعلل وهو أمر غير ما نحن فيه، ولا يخفى أن كلام الله سبحانه أجل وأعلى من أن يعتبر فيه مثل هذا الاحتمال، وفي جعله عليه السلام نفس الحزن ما لا يخفى من المبالغة‏.‏

وقرأ ابن وثاب‏.‏ والأعمش‏.‏ وحمزة‏.‏ والكسائي‏.‏ وابن سعدان‏.‏ حزناً بضم الحاء وسكون الزاي، وقرأ الجمهور بفتحتين لغة قريش ‏{‏إِنَّ فِرْعَوْنَ وهامان وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خاطئين‏}‏ في كل ما يأتون وما يذرون أو من شأنهم الخطأ فليس ببدع منهم أن قتلوا ألوفاً لأجله ثم أخذوه يربونه ليكبر ويفعل بهم ما كانوا يحذرونه، روى أنه ذبح في طلبه عليه السلام تسعون ألف وليد‏.‏ و‏{‏خاطئين‏}‏ على هذا من الخطأ في الرأي، ويجوز أن يكون من خطىء بمعنى أذنب، وفي الأساس يقال‏:‏ خطىء خطأ إذا تعمد الذنب، والمعنى وكانوا مذنبين فعاقبهم الله تعالى بأن ربى عدوهم على أيديهم، والجملة على الأول اعتراض بين المتعاطفين لتأكيد خطئهم المفهوم من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً‏}‏ فإنه كما سمعت استعارة تهكمية وعلى الثاني، اعتراض لتأكيد ذنبهم المفهوم من حاصل الكلام، وقيل‏:‏ يتعين عليه أن تكون اعتراضاً لبيان الموجب لما ابتلوا به ويحتمل على هذا أن تكون استئنافاً بيانياً إن أريد بما ابتلوا به كونه عدواً وحزناً وهو لا ينافي الاعتراض عندهم، وقرىء خاطين بغير همز فاحتمل أن يكون أصله الهمز وحذفت وهو الظاهر، وقيل‏:‏ هو من خطا يخطو أي خاطين الصواب إلى ضده فهو مجاز‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَتِ امرأت فِرْعَوْنَ‏}‏ آسية بنت مزاحم بن عبيد بن الريان بن الوليد الذي كان فرعون مصر في زمن يوسف الصديق عليه السلام وعلى هذا لم تكن من بني إسرائيل، وقيل‏:‏ كانت منهم من سبط موسى عليه السلام، وحكى السهيلي أنها كانت عمته عليه السلام وهو قول غريب، والمشهور القول الأول‏.‏

والجملة عطف على جملة ‏{‏فالتقطه آل فرعون‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 8‏]‏ أي وقالت امرأة فرعون له حين أخرجته من التابوت‏.‏

‏{‏قُرَّةُ عَيْنٍ لّى وَلَكَ‏}‏ أي هو قرة عين كائنة لي ولك على أن قرة خبر مبتدأ محذوف، والظرف في موضع الصفة له ويبعد كما في البحر أن يكون مبتدأ خبره جملة قوله تعالى‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تَقْتُلُوهُ‏}‏ وقالت ذلك لما ألقى الله تعالى من محبته في قلبها أو لما كشف لها فرأته من النور بين عينيه أو لما شاهدته من برء بنت فرعون من البرص بريقه أو بمجرد النظر إلى وجهه، ولتفخيم شأن القرة عدلت عن لنا إلى لي ولك وكأنها لما تعلم من مزيد حب فرعون إياها وأن مصلحتها أهم عنده من مصلحة نفسه قدمت نفسها عليه فيكون ذلك أبلغ في ترغيبه بترك قتله، فلا يقال إن الأظهر في الترغيب بذلك العكس وقد يستأنس لكون مصلحتها أهم عنده من مصلحة نفسه ما أخرجه النسائي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها حين قالت له ذلك قال لك لا لي ولو قال لي كما هو لك لهداه الله تعالى كما هداها، وهذا أمر فرضي فلا ينافي ما ورد من أنه عليه اللعنة طبع كافراً، والخطاب في لا تقتلوه قيل‏:‏ لفرعون وإسناد الفعل إليه مجازي لأنه الآمر والجمع للتعظيم، وكونه لا يوجد في كلام العرب الموثوق بهم إلا في ضمير المتكلم كفعلنا مما تفرد به الرضى وقلده فيه من قلده وهو لا أصل له رواية ودراية قال أبو علي الفارسي في فقه اللغة من سنن العرب مخاطباً الواحد بلفظ الجمع فيقال للرجل العظيم انظروا في أمري، وهكذا في سر الأدب وخصائص ابن جني وهو مجاز بليغ وفي القرآن الكريم منه ما التزام تأويله سفه، وقيل‏:‏ هو لفرعون وأعوانه الحاضرين ورجح بما روى أن غواة قومه قالوا وقت إخراجه هذا هو الصبي الذي كنا نحذر منه فأذن لنا في قتله‏.‏

وقيل‏:‏ هو له ولمن يخشى منه القتل وإن لم يحضر على التغليب، واختار بعضهم كونه للمأمورين بقتل الصبيان كأنها بعد أن خاطبت فرعون وأخبرته بما يستعطفه على موسى عليه السلام أمنت منه بإدارة أمن جديد بقتله فالتفتت إلى خطاب المأمورين قبل فنهتهم عن قتله معللة ذلك بقوله تعالى المحكي عنها‏:‏

‏{‏عسى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا‏}‏ وهو أوفق باختلاف الأسلوب حيث فصلت أولاً في قولها‏:‏ لي ولك وأفردت ضمير خطاب فرعون ثم خاطبت وجمعت الضمير في لا تقتلوه ثم تركت التفصيل في ‏{‏عسى أَن يَنفَعَنَا‏}‏ الخ ولم تأت به على طرز قرة عين لي ولك بأن تقول؛ عسى أن ينفعني وينفعك مثلاً فتأمل‏.‏

ورجاء نفعه لما رأت فيه من مخايل البركة ودلائل النجاة‏:‏

في المهد ينطق عن سعادة جده *** أثر النجابة ساطع البرهان

واتخاذه ولداً لأنه لائق لتبني الملوك لما فيه من الأبهة وعطف هذا على ما قبله من عطف الخاص على العام أو تعتبر بينهما المغايرة وهو الأنسب بأو ‏{‏وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ حا لمن آل فرعون والتقدير فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً وقالت امرأته له كيت وكيت، وهم لا يشعرون بأنهم على خطأ عظيم فيما صنعوا‏.‏ وقال‏:‏ قتادة لا يشعرون أنه الذي يفسد ملكهم على يده‏.‏ وقال مجاهد أنه عدو لهم‏.‏ وقال محمد بن إسحق‏:‏ أني أفعل ما أريد لا ما يريدون والتقدير الأول أجمع، وجوز كونه حالاً من القائلة والمقول له معاً‏.‏ والمراد بالجمع اثنان على احتمال كون الخطاب في لا تقتلوه لفرعون فقط وكونه حالاً من القائلة فقط أي قالت امرأة فرعون له ذلك والذين أشاروا بقتله لا يشعرون بمقالتها له واستعطاف قلبها عليه لئلا يغروه بقتله وعلى الاحتمالات الثلاثة هو من كلام الله تعالى، وجوز كونه حالاً من أحد ضميري نتخذه على أن الضمير للناس لا لذي الحال إذ يكفي الواو للربط أي نتخذه ولداً والناس لا يعلمون أنه لغيرنا وقد تبنيناه فيكون من كلام آسية رضي الله تعالى عنها

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمّ موسى فَارِغاً‏}‏ أي صار خالياً من كل شيء غير ذكر موسى عليه السلام أخرجه الفريابي‏.‏ وابن أبي شيبة‏.‏ وعبد بن حميد‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ والحاكم‏.‏ وصححه من طرق عن ابن عباس وروي ذلك أيضاً عن ابن مسعود‏.‏ والحسن‏.‏ ومجاهد، ونحوه عن عكرمة‏.‏ وقالت‏:‏ فرقة فارغاً من الصبر وقال ابو زيد‏:‏ فارغاً من وعد الله تعالى ووحيه سبحانه إليها تناست ذلك من الهم وقال أبو عبيدة‏:‏ فارغاً من الهم إذ لم يغرق وسمعت أن فرعون عطف عليه وتبناه كما يقال فلان فارغ البال وقال بعضهم‏:‏ فارغاً من العقل لما دهمها من الخوف والحيرة حين سمعت بوقوعه في يد عدوه فرعون كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 43‏]‏ أي خلاء لا عقول فيها واعترض على القولين بأن الكلام عليهما لا يلائم ما بعده وفيه نظر، وقرأ أحمد بن موسى عن أبي عمرو فواد بالواو وقرأ مؤسى بهمزة بدل الواو، وقرأ فضالة بن عبيد‏.‏ والحسن‏.‏ ويزيد بن قطيب‏.‏ وأبو زرعة بن عمرو بن جرير فزعاً بالزاي والعين المهملة من الفزع وهو الخوف والقلق، وابن عباس قرعاً بالقاف وكسر الراء وإسكانها من قرع رأسه إذا انحسر شعره كأنه خلا من كل شيء إلا من ذكر موسى عليه السلام، وقيل‏:‏ قرعاً بالسكون مصدر أي يقرع قرعاً من القارعة وهو الهم العظيم‏.‏ وقرأ بعض الصحابة فزغاً بفاء مكسورة وزاي ساكنة وغين معجمة ومعناه ذاهباً هدراً‏.‏ والمراد هالكاً من شدة الهم كأنه قتيل لا قود ولا دية فيه، ومنه قول طليحة الأسدي في أخيه حبال‏:‏

فإن يك قبلي قد أصيبت نفوسهم *** فلن يذهبوا فزغاً بقتل حبال

وقرأ الخليل بن أحمد فزغاً بضم الفاء والراء ‏{‏إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ‏}‏ أي أنها كادت الخ على أن إن هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة أو ما كادت إلا تبدى به على أن إن نافية واللام بمعنى إلا وهو قول كوفي والإبداء إظهار الشيء وتعديته بالباء لتضمينه معنى التصريح، وقيل‏:‏ المفعول محذوف والباء سببية أي تبدى حقيقة الحال بسببه أي بسبب ما عراها من فراقه، وقيل‏:‏ هي صلة أي تبديه وكلا القولين كما ترى، والظاهر أن الضمير المجرور لموسى عليه السلام، والمعنى أنها كادت تصرح به عليه السلام وتقول وابناه من شدة الغم والوجد رواه الجماعة عن ابن عباس، وروي ذلك أيضاً عن قتادة‏.‏ والسدي‏.‏ وعن مقاتل أنها كادت تصيح وابناه عند رؤيتها تلاطم الأمواج به شفقة عليه من الغرق، وقيل‏:‏ المعنى أنها كادت تظهر أمره من شدة الفرح بنجاته وتبنى فرعون إياه، وقيل‏:‏ الضمير للوحي إنها كادت تظهر الوحي وهو الوحي الذي كان في شأنه عليه السلام المذكور في قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَأَوْحَيْنَا إلى أُمّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 7‏]‏ الآية وهو خلاف الظاهر ولا تساعد عليه الروايات ‏{‏لَوْلا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا‏}‏ أي بما أنزلنا عليه من السكينة والمراد لولا أن ثبتنا قلبها وصبرناها، فالربط على القلب مجاز عن ذلك، وجواب لولا محذوف دل عليه ‏{‏إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ‏}‏ أي لولا أن ربطنا على قلبها لأبدته، وقيل‏:‏ لكادت تبدى به، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِتَكُونَ مِنَ المؤمنين‏}‏ علة للربط على القلب، والإيمان بمعنى التصديق أي صبرناها وثبتنا قلبها لتكون راسخة في التصديق بوعدنا بأنا رادوه إليها وجاعلوه من المرسلين، ومن جعل الفراغ من الهم والحزن وكيدودة الإبداء من الفرح بتبنيه عليه السلام الذي هو فرح مذموم جعل الإيمان بمعنى الوثوق كما في قولهم على ما حكى أبو زيد ما آمنت أن أجد صحابة أي ما وثقت وحقيقته صرت ذا أمن أي ذا سكون وطمأنينة، وقال المعنى لولا أن ربطنا على قلبها وسكنا قلقه الكائن من الابتهاج الفاسد لتكون من الواثقين بوعد الله تعالى المبتهجين بما يحق الابتهاج به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَتْ لاخْتِهِ‏}‏ مريم وقيل‏:‏ كلثمة وقيل‏:‏ كلثوم‏.‏ والتعبير عنها بأخوته دون أن يقال لبنتها للتصريح بمدار المحبة الموجبة للامتثال بالأمر ‏{‏قُصّيهِ‏}‏ أي اتبعي أثره وتتبعي خبره، والظاهر أن هذا القول وقع منها بعد أن أصبح فؤادها فارغاً فإن كانت لم تعرف مكانه إذ ذاك فظاهر وإن كانت قد عرفته فتتبع الخبر ليعرف هل قتلوه أم لا ولينكشف ما هو عليه من الحال ‏{‏فَبَصُرَتْ بِهِ‏}‏ أي أبصرته والفاء فصيحة أي فقصت أثره فبصرت، وقرأ قتادة فبصرت بفتح الصاد وعيسى بكسرها ‏{‏عَن جُنُبٍ‏}‏ أي عن بعد، وقيل‏:‏ أي عن شوق إليه حكاه أبو عمرو بن العلاء وقال هي لغة جذام يقولون جنبت إليك أي اشتقت، وقال الكرماني جنب صفة لموصوف محذوف أي عن مكان جنب أي بعيد وكأنه من الأضداد فإنه يكون بمعنى القريب أيضاً كالجار الجنب، وقيل‏:‏ أي عن جانب لأنها كانت تمشي على الشط، وقيل‏:‏ النظر عن جنب أن تنظر إلى الشيء كأنك لا تريده‏.‏

وقرأ قتادة‏.‏ والحسن‏.‏ وزيد بن علي رضي الله تعالى عنه، والأعرج عن جنب بفتح الجيم وسكون النون وعن قتادة أنه قرأ بفتحهما أيضاً، وعن الحسن أنه قرىء بضم الجيم وإسكان النون، وقرأ النعمان بن سالم عن جانب والكل على ما قيل‏:‏ بمعنى واحد، وفي البحر» الجنب والجانب والجنابة والجناب بمعنى ‏{‏وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ أنها تقصه وتتعرف حاله أو أنها أخته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع‏}‏ أي منعناه ذلك فالتحريم مجاز عن المنع فإن من حرم عليه شيء فقد منعه ولا يصح إرادة التحريم الشرعي لأن الصبي ليس من أهل التكليف ولا دليل على الخصوصية، والمراضع جمع مرضع بضم الميم وكسر الضاد وهي المرأة التي ترضع، وترك التاء إما لاختصاصه بالنساء أو لأنه بمعنى شخص مرضع؛ أو جمع مرضع بفتح الميم على أنه مصدر ميمي بمعنى الرضاع وجمع لتعدد مراته أو اسم مكان أي موضع الرضاع وهو الثدي ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ أي من قبل قصها أو إبصارها أو وروده على من هو عنده، أو من قبل ذلك أي من أول أمره وظاهر صنيع أبي حيان اختياره ‏{‏فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ‏}‏ أي هل تريدون أن أدلكم ‏{‏على أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ‏}‏ أي يضمنونه ويقومون بتربيته لأجلكم، والفاء فصيحة أي فدخلت عليهم فقالت، وقولها‏:‏ على أهل بيت دون امرأة إشارة إلى أن المراد امرأة من أهل الشرف تليق بخدمة الملوك ‏{‏وَهُمْ لَهُ ناصحون‏}‏ لا يقصرون في خدمته وتربيته، وروي أن هامان لما سمع هذا منها قال إنها لتعرفه وأهله فخذوها حتى تخبر بحاله فقالت إنما أردت وهم للملك ناصحون فخلصت بذلك من الشر الذي يجوز لمثله الكذب وأحسنت وليس ببدع لأنها من بيت النبوة فحقيق بها ذلك‏.‏ واحتمال الضمير لأمرين مما لا تختص به اللغة العربية بل يكون في جميع اللغات على أن الفراعنة من بقايا العمالقة وكانوا يتكلمون بالعربية فلعلها كلمت بلسانهم ويسمى هذا الأسلوب من الكلام الموجه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏فرددناه إلى أُمّهِ‏}‏ الفاء فصيحة أي فقبلوا ذلك منها ودلتهم على أمه وكلموها في إرضاعه فقبلت فرددناه إليها أو يقدر نحو ذلك، وروي أن أخته لما قالت ما قالت أمرها فرعون بأن تأتي بمن يكفله فأتت بأمه وموسى عليه السلام على يد فرعون يبكي وهو يعلله فدفعه إليها فلما وجد ريحها استأنس والتقم ثديها فقال‏:‏ من أنت منه‏؟‏ فقد أبى كل ثدي إلا ثديك فقالت إني امرأة طيبة اللبن لا أوتي بصبي إلا قبلني فقرره في يدها فرجعت به إلى بيتها من يومها وأمر أن يجري عليها النفقة وليس أخذها ذلك من أخذ الأجرة على إرضاعها إياه ولو سلم فلا نسلم أنه كان حراماً فيما تدين وكانت النفقة على ما في «البحر» ديناراً في كل يوم ‏{‏كَى تَقَرَّ عَيْنُها‏}‏ بوصول ولدها إليها ‏{‏وَلاَ تَحْزَنْ‏}‏ لفراقه ‏{‏وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ الله‏}‏ أي جميع ما وعده سبحانه من رده وجعله من المرسلين ‏{‏حَقّ‏}‏ لا خلف فيه بمشاهدة بعضه وقياس بعضه عليه وإلا فعلمها بحقية ذلك بالوحي حاصل قبل‏.‏

واستدل أبو حيان بالآية على ضعف قول من ذهب إلى أن الإيحاء كان إلهاماً أو مناماً لأن ذلك يبعد أن يقال فيه وعد، وفيه نظر ‏{‏ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ أي لا يعرفون وعده تعالى ولا حقيته أو لا يجزمون بما وعدهم جل وعلا لتجويزهم تخلفه وهو سبحانه لا يخلف الميعاد، وقيل‏:‏ لا يعلمون أن الغرض الأصلي من الرد عليها علمها بذلك وما سواه من قرة عينها وذهاب حزنها تبع، وفيه أن الذي يفيده الكلام إنما هو كون كل من قرة العين والعلم كالغرض أو غرضاً مستقلاً، وأما تبعية غير العلم له لا سيما مع تقدم الغير فلا، وكون المفيد لذلك حذف حرف العلة من الأول لا يخفى حاله، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس‏}‏ الخ قيل‏:‏ تعريض بما فرط من أمه حين سمعت بوقوعه في يد فرعون من الخوف والحيرة وأنت تعلم أن ما عراها كان من مقتضيات الجبلة البشرية وهو يجامع العلم بعدم وقوع ما يخاف منه، ونفي العلم في مثل ذلك إنما يكون بضرب من التأويل كما لا يخفى‏.‏ ثم إن الاستدراك على ما اختاره مما وقع بعد العلم، وجوز أن يكون من نفس العلم وذلك إذا كان المعنى لا يعلمون أن الغرض الأصلي من الرد عليها علمها بحقية وعد الله تعالى فتأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ‏}‏ أي المبلغ الذي لا يزيد عليه نشؤه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واستوى‏}‏ أي كمل وتم تأكيد وتفسير لما قبله كذا قيل‏:‏ واختلف في زمان بلوغ الأشد والاستواء فأخرج ابن أبي الدنيا من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال الأشد ما بين الثماني عشرة إلى الثلاثين والاستواء ما بين الثلاثين إلى الأربعين فإذا زاد على الأربعين أخذ في النقصان، وأخرج عبد بن حميد‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال الأشد ثلاث وثلاثون سنة والاستواء أربعون سنة وهي رواية عن ابن عباس أيضاً وروي نحوه عن قتادة وقال الزجاج مرة بلوغ الأشد من نحو سبع عشرة سنة إلى الأربعين وأخرى هو ما بين الثلاثين إلى الأربعين واختاره بعضهم هنا وعلل بأن ذلك لموافقته لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 15‏]‏ لأنه يشعر بأنه منته إلى الأربعين وهي سن الوقوف فينبغي أن يكون مبدؤه مبدأه ولا يخلو عن شيء والحق أن بلوغ الأشد في الأصل هو الانتهاء إلى حد القوة وذلك وقت انتهاء النمو وغايته وهذا مما يختلف باختلاف الأقاليم والأعصار والأحوال ولذا وقع له تفاسير في كتب اللغة والتفسير، ولعل الأولى على ما قيل‏:‏ أن يقال إن بلوغ الأشد عبارة عن بلوغ القدر الذي يتقوى فيه بدنه وقواه الجسمانية وينتهي فيه نموه المعتد به والاستواء اعتدال عقله وكماله ولا ينبغي تعيين وقت لذلك في حق موسى عليه السلام إلا بخبر يعول عليه لما سمعت من أن ذاك مما يختلف باختلاف الأقاليم والأعصار والأحوال نعم اشتهر أن ذلك في الأغلب يكون في سن أربعين وعليه قول الشاعر‏:‏

إذا المرأ وافى الأربعين ولم يكن *** له دون ما يهوى حياء ولا ستر

فدعه ولا تنفس عليه الذي مضى *** وإن جر أسباب الحياة له العمر

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 15‏]‏ ما يستأنس به لذلك‏.‏ وقد مر طرف من الكلام في الأشد في سورة يوسف فتذكر ولا تغفل‏.‏ ثم إن حاصل المعنى على ما قيل أخيراً‏:‏ ولما قوي جسمه، واعتدل عقله ‏{‏اتَيْنَاهُ حُكْمًا‏}‏ أي نبوة على ما روي عن السدي أو علماً هو من خواص النبوة على ما تأول به بعضهم كلامه ‏{‏وَعِلْماً‏}‏ بالدين والشريعة‏.‏ وفي «الكشاف» العلم التوراة والحكم السنة وحكمة الأنبياء عليهم السلام سنتهم‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏واذكرن مَا يتلى فِى بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءايات الله والحكمة‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 34‏]‏ وقيل آتيناه سيرة الحكماء العلماء وسمتهم قبل البعث، فكاه عليه السلام لا يفعل فعلاً يستجهل فيه اه، ورجح ما قيل بأنه أوفق لنظم القصة مما تقدم، لأن استنباءه عليه السلام بعد وكز القبطي، والهجرة إلى مدين، ورجوعه منها، وإيتاؤه التوراة كان بعد إغراق فرعون، فهو بعد الوكز بكثير وبأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك‏}‏ أي مثل ذلك الذي فعلناه بموسى وأمه عليهما السلام ‏{‏نَجْزِى المحسنين‏}‏ على إحسانهم يأبى حمل ما تقدم على النبوة لأنها لا تكون جزاء على العمل، ومن ذهب إلى الأول جعل هذا بياناً إجمالياً لإنجاز الوعد بجعله من المرسلين بعد رده لأمه، وما بعد تفصيل له، والعطف بالواو لا يقتضي الترتيب، وكون ما فعل بموسى وأمه عليهما السلام جزاء على العمل باعتبار التغليب‏.‏

وقد يقال‏:‏ إن أصل النبوة وإن لم تكن جزاء على العمل إلا أن بعض مراتبها، وهو ما فيه مزيد قرب من الله تعالى يكون باعتبار مزيد القرب جزاءً عليه ويرجع ذلك إلى أن مزيد القرب هو الجزاء وتفاوت الأنبياء عليهم السلام في القرب منه تعالى مما لا ينبغي أن يشك فيه، ورجح ما تقدم بكونه أوفق بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 13‏]‏ واستلزامه حصول النبوة لكل محسن ليس بشيء أصلاً، ومن ذهب إلى أن هذا الإيتاء كان قبل الهجرة قال‏:‏ يجوز أن يكون المعنى آتيناه رياسة بين قومه بني إسرائيل بأن جعلناه ممتازاً فيما بينهم، يرجعون إليه في مهامهم، ويمتثلونه إذا أمرهم بشيء أو نهاهم عنه، وعلماً ينتفع به وينفع به غيره، وذلك إما بمحض الإلهام، أو بتوفيقه لاستنباط دقائق وأسرار مما نقل إليه من كلمات آبائه الأنبياء عليهم السلام من بني إسرائيل ولا بدع في أن يكون عليه السلام عالماً بما كان عليه آباؤه الأنبياء منهم وبما كانوا يتدينون به من الشرائع بواسطة الإلهام أو بسماع ما يفيده العلم من الأخبار، ولعل هذا أولى مما نقله في «الكشاف»‏.‏ وفي الكلام على أواخر سورة البقرة ما تنفعك مراجعته فيراجع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏وَدَخَلَ المدينة‏}‏ قال ابن عباس على ما في «البحر»‏:‏ هي منف ‏{‏على حِينِ غَفْلَةٍ مّنْ أَهْلِهَا‏}‏ أي في وقت لا يعتاد دخولها، أو لا يتوقعونه فيه، وكان على ما روي عن الحبر وقت القائلة‏.‏ وفي رواية أخرى عنه بين العشاء والعتمة‏.‏ وذلك أن فرعون ركب يوماً وسار إلى تلك المدينة فعلم موسى عليه السلام بركوبه فلحق ودخل المدينة في ذلك الوقت‏.‏ وقال ابن إسحاق‏:‏ هي مصر، كان موسى عليه السلام قد بدت منه مجاهرة لفرعون وقومه بما يكرهون، فاختفى وغاب، فدخلها متنكراً‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ كان فرعون قد أخرجه منها فغاب سنين فنسي فجاء ودخلها وأهلها في غفلة بنسيانهم له، وبعد عهدهم به‏.‏ وقيل‏:‏ دخل في يوم عيد وهم مشغولون بلهوهم‏.‏ وقيل‏:‏ خرج من قصر فرعون ودخل مصر وقت القيلولة أو بين العشاءين‏.‏ وقيل‏:‏ المدينة عين شمس‏.‏ وقيل‏:‏ قرية على فرسخين من مصر يقال لها‏:‏ حابين‏.‏ وقيل‏:‏ هي الإسكندرية، والأشهر أنها مصر، ولعله هو الأظهر والمتبادر أن على حين متعلق بدخل، وعليه فالظاهر أن على بمعنى في مثلها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سليمان‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 102‏]‏ على قول‏.‏

وقال أبو البقاء‏:‏ هو في موضع الحال من المدينة، ويجوز أن يكون في موضع الحال من الفاعل أي مختلساً اه ولعل الذي دعاه إلى العدول عن المتبادر احتياجه إلى جعل على بمعنى في وخفاء نكتة التعبير بها دونها أو الاكتفاء بالظرف وحده عليه والأمر ظاهر لمن له أدنى تأمل، وقيل‏:‏ إن الداعي إلى ذلك أن دخول المدينة في حين غفلة من أهلها ليس نصاً في دخولها غافلاً أهلها كما في وجه الحالية من المدينة ولا في دخولها مختلساً كما في وجه الحالية من الضمير فإن وقت الغفلة كوقت القائلة وما بين العشاءين قد لا يغفل فيه وفيه بحث‏.‏ و‏{‏مّنْ أَهْلِهَا‏}‏ في موضع الصفة لغفلة وما في «النظم الكريم» أبلغ من غفلة أهلها بالإضافة لما في التنوين من إفادة التفخيم، ولعله عدل عن ذلك إلى ما ذكر لهذا فتدبر، وقرأ أبو طالب القارىء على حين بفتح النون ووجه بأنه فتح لمجاورة الغين كما كسر في بعض القراآت الدال في ‏{‏الحمد لله‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 2‏]‏ مجاورة اللام أو بأنه أجرى المصدر مجرى الفعل كأنه قيل‏:‏ على حين غفل أهلها فنبي حين كما يبنى إذا أضيف إلى الجملة المصدرة بفعل ماض نحو قوله‏:‏

على حين عاتبت المشيب على الصبا *** وهو كما ترى‏:‏ ‏{‏فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ‏}‏ أي يتحاربان والجملة صفة لرجلين‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ في موضع الحال وهو مبني على مذهب سيبويه من جواز مجىء الحال من النكرة من غير شرط، وقرأ نعيم بن ميسرة يقتلان بإدغام التاء في التاء ونقل فتحتها إلى القاف، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا مِن شِيعَتِهِ‏}‏ أي ممن شايعه وتابعه في أمره ونهيه أو في الدين على ما قاله جماعة وهم بنو إسرائيل قال في الإتقان‏:‏ هو السامري ‏{‏وهذا مِنْ عَدُوّهِ‏}‏ من مخالفيه فيما يريد أو في الدين على ما قاله الجماعة وهم القبط واسمه كما في «الإتقان» أيضاً قانون صفة بعد صفة لرجلين والإشارة بهذا واقعة على طريق الحكاية لما وقع وقت الوجدان كأن الرائي لهما يقوله لا في المحكي لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال المبرد‏:‏ العرب تشير بهذا إلى الغائب قال جرير‏:‏

هذا ابن عمي في دمشق خليفة *** لو شئت ساقكم إليّ قطينا

وهذه الإشارة قائمة مقام الضمير في الربط والعطف سابق على الوصفية، واختلف في سبب تقاتل هذين الرجلين، فقيل‏:‏ كان أمراً دينياً، وقيل‏:‏ كان أمراً دنيوياً، روي أن القبطي كلف الإسرائيلي حمل الحطب إلى مطبخ فرعون فأبى فاقتتلا لذلك، وكان القبطي على ما أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير خبازاً لفرعون‏.‏

‏{‏فاستغاثه الذى مِن شِيعَتِهِ‏}‏ أي فطلب غوثه ونصره إياه ‏{‏عَلَى الذى مِنْ عَدُوّهِ‏}‏ ولتضمين الفعل معنى النصر عدى بعلى ويؤيده قوله تعالى بعد‏:‏ ‏{‏استنصره بالامس‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 18‏]‏، ويجوز أن يكون تعديته بعلى لتضمينه معنى الإعانة ويؤيده أنه قرىء فاستعانه بالعين المهملة والنون بدل الثاء، وقد نقل هذه القراءة ابن خالويه، عن سيبويه‏.‏ وأبو القاسم يوسف بن علي بن جبارة عن ابن مقسم‏.‏ والزعفراني، وقول ابن عطية أنه ذكرها الأخفش وهو تصحيف لا قراءة مما لا ثبت له فيه، وقد حذف من جملة الصلة صدرها أي الذي هو من شيعته والذي هو من عدوه ولو لم يعتبر حذف ذلك صح ‏{‏فَوَكَزَهُ موسى‏}‏ أي ضرب القبطي بجمع كفه أي بكفه المضمومة أصابعها على ما أخرجه غير واحد عن مجاهد‏.‏

وقال أبو حيان‏:‏ الوكز الضرب باليد مجموعة أصابعها كعقد ثلاثة وسبعين وعلى القولين يكون عليه السلام قد ضربه باليد؛ وأخرج ابن المنذر‏.‏ وجماعة عن قتادة أنه عليه السلام ضربه بعصاه فكأنه يفسر الوكز بالدفع أو الطعن وذلك من جملة معانيه كما في «القاموس» ولعله أراد بعصاه عصا كانت له فإن عصاه المشهورة أعطاه إياها شعيب عليه السلام بعد هذه الحادثة كما هو مشهور، وفي كتب التفاسير مسطور‏.‏

وقرأ عبد الله فلكزه باللام وعنده فنكزه بالنون واللكز على ما في «القاموس» الوكز والوجء في الصدر والحنك والنكز على ما فيه أيضاً الضرب والدفع، وقيل‏:‏ الوكز والنكز واللكز الدفع بأطراف الأصابع، وقيل‏:‏ الوكز على القلب واللكز على اللحى‏.‏

روي أنه لما اشتد التناكر قال القبطي لموسى عليه السلام‏:‏ لقد هممت أن أحمله يعني الحطب عليك فاشتد غضب موسى عليه السلام، وكان قد أوتي قوة فوكزه ‏{‏فقضى عَلَيْهِ‏}‏ أي فقتله موسى وأصله أنهى حياته أي جعلها منتهية متقضية وهو بهذا المعنى يتعدى بعلى كما في الأساس فلا حاجة إلى تأويله بأوقع القضاء عليه، وقد يتعدى الفعل بإلى لتضمينه معنى الإيحاء كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الامر‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 66‏]‏ وعود ضمير الفاعل في قضى على موسى هو الظاهر، وقيل‏:‏ هو عائد على الله تعالى أي فقضى الله سبحانه عليه بالموت فقضى بمعنى حكم، وقيل‏:‏ يحتمل أن يعود على المصدر المفهوم من وكزه أي فقضى الوكز عليه أي أنهى حياته ‏{‏قَالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان‏}‏ أي من تزيينه‏.‏

وقيل‏:‏ من جنس عمله والأول أوفق بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ‏}‏ أي ظاهر العداوة على أن مبين صفة ثانية لعدو، وقيل‏:‏ ظاهر العداوة والإضلال، ووجه بأنه صفة لعدو الملاحظ معه وصف الإضلال أو بأنه متنازع فيه لعدو ومضل كل يطلبه صفة له وأياً ما كان فمبين من أبان اللازم‏.‏